المدونات ينبغي أن تكون ممتعة!
Edit Content
نبذة عنّي
كاتبة المحتوى مريم بازرعة
مريم بازرعة

على مدى عشرين عامًا درستُ اللغة العربية وعملتُ في مجال التّعليم والتّدريب وخضتُ كتابة المحتوى.

والآن، اخترتُ أن تكون الكتابة حياتي ووسيلتي لنشر المعرفة وأن أساعد من يريد تعلّم الكتابة الرّقميّة لإتقانها ولتكون وسيلته لتحقيق أهدافه الشخصيّة والمهنيّة.

النشرة البريدية

الفُصحى في الزمن الجميل

صورة لعنوان المقالة الفصحى في الزمن الجميل

هل تساءلتَ يومًا عن أول اتصال لك بالعربية الفصحى؟

الأصلُ أن الاستماع هو أولُ اتصالٍ للإنسان باللغة، وفي حياتنا المعاصرة فإن العامّيّةَ هي أولُ ما يصل مسامع المولود من اللغة على الأغلب، فمتى إذن بدأ اتصالنا بالفصحى؟

يصعب تحديد ذلك فقد يكون أذانًا أوقرآنًا من شخص قريب أوصوت من المذياع أوالتلفاز، لايمكن تحديد ذلك، لكن لماذا هذا السؤال؟ لماذا البحث عن أوليات سماع الفصحى؟ الذي قادني لذلك هو الدهشة التي اعترتني عندما أخذتُ أتذكر علاقتي بالفصحى في صغري وكيف بدأت؟ فقد وقعَ في نفسي أنّني أحببتها لحظة سمعتُها دون أن يكون هناك معرفة سابقة، وكأنها كامنة في النفس أوفي الجينات، لا تفسير غير ذلك. كيف تكوّنتْ تلك العلاقة القوية فجأة، كيف ننجذبُ إلى مجهول لم نعرفه مسبقًا؟ فنحن لم ننشأ في بادية بني سعد مثلا.

قد نجد الإجابة في نشيد اللغة العربية الذي حفظناه في المدرسة، كنا نقول:

نزلتْ في كل نفسٍ     وتمشّتْ في دِماها

فبها الأمُّ تغنّت         وبها الوالدُ فاها

إجابةٌ مقبولة؛ فسببُ حبِّنا للعربية هو لأنّها ما نطق به آباؤنا وأمهاتنا، وإنْ لم يكن ذلك النطق فُصحى كاملة إلاّ إنها عاميةٌ تحوي فصحى؛ فالأصواتُ عربية والمفردات جلُّها عربي والأساليب أيضا لا تنسلخ تماما من الفصحى، فأساس علاقتنا بالفصحى هو الأصوات العربية والمفردات وما رشح منها عبر غلالة العامية الرقيقة.

سأدع فترة أوليات العلاقة مع الفصحى وتأويلاتها، لأتكلم عن فترة كنتُ فيها أكثر وعيًا وإدراكًا، سأتكلمُ عن الفصحى التي خاطبتني وارتبطتُ بها خلال طفولتي وما بعدها، وربما يشاركني أحدٌ ما تلك العلائق التي أذكر.

أتذكرُ برامج تلفزيونية ومسلسلات ومواد صوتية كان لها دور في إذكاء شعلة محبة العربية الفصحى في النفوس، وثّقتِ الصلةَ بها، وساهمتْ في تكوين حصيلة لغوية لدى المتلقين من الصغار خاصة، وجسّرتهم أن يتحدثوا بالفصحى أكثر مما فعلته المدرسة.

افتح يا سمسم

من أجمل البرامج التي قُدمت بالعربية الفصحى، وكانت نتاج تعاون التربويين والإعلاميين، من خلال محتواه نستطيع أن نقول أنه موجّه إلى طفل ما قبل المدرسة وتلميذ الصف الأول في الأساس ويظهر ذلك في ما يقدمه من التعريف بالأصوات والحروف والمفاهيم الأساسية العددية والمكانية وغيره، إلا إن جمهوره حينها كان أكثر من ذلك بفضل ما قدّمه من مشاهد مسلّية تتناول جوانب حياتية وسلوكيّات وقيم، وما احتواه من دمى وشخصيات طريفة وأناشيد ممتعة فصيحة اللفظ خفيفة اللحن مازالت محفوظة إلى الآن.

انقسمت الأناشيد ما بين أناشيد المعارف والسلوكيات مثل: التفلزيون صندوق فنون، ومدرستي الحلوة في قلبي، ونظّف أسنانك تحميها .. إلخ، وأناشيد الحروف مثل: حرفي يسمى القاف تحبه الكلمات وأمثالها من الأناشيد، وتهدف تلك الأناشيد إلى وضع لبنة أساسية في تعليم القراءة والكتابة، تلك اللبنة هي تنبيه الوعي الصوتي عند الطفل وتمييز الأصوات العربية، ويحدث ذلك من خلال أنشودة تستهدف حرفا واحدا يتكرر في كلمات مختلفة ويأتي في مواقع عدة من الكلمة، ويعدُّ الوعي الصوتي للحرف خطوة أساسية سابقة لتعلم الحرف شكلا واسما وقراءة وكتابة.

يلفتني أيضا النشيد الذي قدّم مفهوم التاء المربوطة والمفتوحة ويقول: تاءٌ مربوطة كرةٌ منقوطة، تاءٌ مفتوحة شفةٌ ممطوطة .. وما احتواه النشيد من أمثلة لكل منهما وعلى طريقة للتمييز بينهما، ولا أتذكر إن كان هناك أناشيد أومشاهد أخرى تناولت ظواهر لغوية أخرى كالمد أوالتنوين أو غير ذلك.

مسلسلات الكرتون

كانت مسلسلات الكرتون تسليتنا الوحيدة التي نحافظ على الالتزام بوقتها في زمن القناة الواحدة، ومن أقدم ما أتذكرُ  في صِغري: السندباد، وغريندايزر، والرجل الحديدي، ثم قصص الشعوب، جزيرة الكنز، سنان، عدنان ولينا، وريمي، فلونة و روبنسون كروزو. أثّرت مسلسلات الكرتون تلك وما جاء بعدها على القنوات الفضائية تأثيرًا عجيبا على العربية الفصحى على ألسنة الأطفال، تلمسه في تقليدهم لما سمعوه، وانطلاقهم في الفصحى، وكسرِهم الاسم المجرور ورفعهم الفاعل ونصبهم المفعول، واستجابتهم للمحادثة بالفصحى، وكأن التلفاز هو “البادية” التي يرسل إليها الأطفال لاكتساب الفصاحة في الحديث والتصرف بالكلمات والأساليب، ويصف  ماهر أمير   @Maher_Ameer_ ذلك بتغريدة معلقا على إحدى الصور وذاكرا أثر الدبلجة الفصيحة:

شئنا أم أبينا… حافظ هذا على لغة جيلين أو ثلاثة… لا الأجرومية ولا قطر الندى ولا ألفية ابن مالك ولا غير ذلك… وأننا كنا على طريق معقول في الدبلجة… ثم نكصنا عنه بدلا من تطويره…

صورة لميمز اكتساب الأطفال الفصحى من برامج الكرتون

أحلى الكلام

قدم البرنامج العراقي “أحلى الكلام” جرعة من المعرفة النحوية ونصوصا أدبية وتعريفا بشخصيات تاريخية من علماء لغة وأدباء وشعراء، وكان حيُّ بن يقظان أحدَ أبطال البرنامج. كان البرنامج يخاطب جميع محبي العربية الفصحى من أطفال وناشئة وحتى الكبار. يبدأ البرنامج بأغنية: أبجد هوز حطي كلمن .. هذا ورقٌ هذا قلمٌ، وكان موضوعه الأساسي قواعد اللغة العربية والإعراب، فقد كانت المشاهد تقع في “مدينة  القواعد” وأحيائها التي تحمل أسماء مباحث نحوية مختلفة، الجميل في هذا البرنامج هو تجسيد المفاهيم النحوية كالضمائر المستترة وغيرها من خلال مشاهد تمثيلية وتقريبها بشكل محسوس وممتع، تجمع بين التسلية ومتعة النحو وعلاقاته المنطقية. وأتوقع أنه كان يقدم أفكارا ملهمة للمسرح المدرسي التعليمي في تقديم موضوعات النحو بصورة جديدة.

المناهل

برنامج تعليمي وتربوي أُرْدني للأطفال كانت مقدمته تجذبني، تبدأ المقدمة بصورة أخّاذة لكتب تراثية متراصّة مع كلمات الأغنية التي تعزز تلك الجاذبية: هذي لغتي فوق الشفتةِ كالأغنيةِ.. هيّا إلى المناهل هيّا إلى الحياة. لا أذكره جيدا يبدو أنني لم أكن منتظمة في المتابعة ربما كنت قد كبُرت حينها على مثل هذه البرامج ومع ذلك كان جاذبا. كان يتميزُ بالمشاهد الهزلية المضحكة، ومازال في ذاكرتي نجدة البطل “أبو الحروف” الذي يأتي مسرعا لحل مشكلة طرأت على كلمة بتغيير حرف من حروفها فأصبحت كلمة أخرى وتضرّر الناس في ذلك الموقف من ذلك التغيير، فيأتي أبو الحروف ” أقوى من الشدّة، أطولُ من المَدّة، أحدُّ من السين، أسرعُ من لمْحِ العين” ليُنقذَ الكلمة التي غيّر الأشرار حرفًا فيها فتغير معناها، وتضرر الموجودون في الموقف من ذلك التغيير، وينجح في حل المشكلة.

المسلسلات التاريخية

أعني هنا مسلسلات تاريخية معينة جذبت الكبار والصغار من محبي الفصحى والتراث العربي الإسلامي، أذكر أنها تأخذنا إلى عالم الكتب التراثية، قصصًا وحكاياتٍ وشخصياتٍ تاريخية ونبرةَ صوت في مواقف عربية وإسلامية خالدة، بقيَ أُثرُها في نفسي واضمحلتْ تفاصيلها، منها: مسلسلات الممثل “رشيد علامة” بهيئته وصوته وأدائه، ويرسخُ في ذاكرتي تمثيلية عن”جابر عثرات الكرام”، والمسلسل اللبناني “جحا الضاحكُ الباكي” وكانت أغنية المقدمة تبدأ بـ جحا تجحْجح .. ، والمسلسل  الكوميدي”سحور على مائدة أشعب” وكانت أغنية المقدمة: أشعب يا أشعب يا أشعب .. ماذا؟ يا بطْنا أوسعُ من ملعب؟

أناشيد نداء وحداء

            على كثرة ما ظهر من أشرطة الأناشيد الإسلامية في فترة ما، إلا أن أناشيد نداء وحداء كانت -برأيي- ملْء الأفواه والأسماع؛ القيم والمشاعر والكلمة الجميلة واللحن البديع والصوت الرخيم، حافظت على حضورها حتى بعد تطور وسائل الإنتاج الصوتي، قدمت لنا مستوى مختلفا من العربية الفصحى باختياراتها لقصائد شعرية ذات لغة راقية، ومما علق بذاكرتي منها نشيد الأندلس:

إني بأندلس أهيمُ فيا أخي علّلْ بذكرِ حديثِها قلبي الظمي

في ذلك الفردوس أشرقَ نجْمُنا حِينًا وكنا للثريا ننتمي

بالله إن زرتَ المغانيَ مرةً  عرّج على أهلي هناك وسلِّمِ

وأيضا نشيد”من هنا شقّ الهُدى أكمامَه”، الذي عرفتُ فيما بعد أنها من قصيدة “عروس المجد” للشاعر السوري عمر أبو ريشة، وأنّ المقصود بقوله:” أصيدٌ ضاقت به صحراؤه “هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والقصيدة باذخة تستحق الاطلاع وكانت ضمن منهج الصف الثالث ثانوي.

أناشيد الأطفال

أعني بالأناشيد هنا ما كان بدون موسيقى، تمييزًا لها عن الأغاني والتي كانت بصحبة الموسيقى، هذا التقسيم أوالتسمية كان شائعا آنذاك، وأقصد في هذه الفقرة تحديدا أناشيد “سنا” وقناة المجد. كانت أناشيد سنا تحديدا تأتي في نسختين أحدهما بدف أو إيقاع والآخر بدون ذلك، وكان لها حضور قوي لا سيما في حفلات رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية؛ أناشيد ذات معان حياتية قريبة وألحان خفيفة ذات إيقاعات جميلة، مثل : قد أشرق النهار وغنت الأطيار، وجدتي جدتي حلوة البسمة، وصباح الخير يا جاري.

وتميزت أناشيد قناة المجد-التي أتذكرها- بأنها ذات طابع قصصي حواري ممتع، ومن ذلك:أنا نملة أحبّ السعي والحركة، وقصة جحا وجاره، وحوار حمزة مع قطرة الماء. ومنها ما كان غير ذلك مثل نشيد: أنا صرتُ كبيرا ياماما.. ها أنا أكبرُ عامًا عامًا، الذي أصبح مقررا في رياض الأطفال بدون مقرِّر.

سبيستون

كما هو معلوم فإن سبيستون قناة وليست برنامجا، لا أذكر منها شيئا كثيرا لأني كنتُ حينها أمًّا وأيضا معلمة للصف الثالث الابتدائي. لفتني نشيد “المرفوعات من الأسماء” حين سمعته من إحدى التلميذات، أعجبني محتوى النشيد بتقديمه المرفوعات بهذه الطريقة، هذا المدخل في تقديم النحو عادة ما يُعرض في مقرر اللغة العربية في السنة الأولى من الجامعة وكأنه مراجعة لما سبق دراسته من النحو وتمهيدًا للجانب التطبيقي، وكما هناك نشيد للمرفوعات من الأسماء يوجد آخر للمنصوبات.

الشيء الثاني: كان نشيدًا مازال يتردد إيقاعه في أذني  ويترافق مع صورة الضرب والتوقيع:

 خطواتُ المحدثِ تنتقلُ         فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ

لاعجب في ذلك، وقد كان المقصود التعريف ببحور الشعر وأوزانه بطريقة غير مباشرة، فقد كانت ترِدُ بعد البيت الأول-الذي يحوي اسم البحر ووزنه- أبياتًا على الوزن نفسه من قصائد عدة، مختلفة القافية، وكان النشيد مدخلا لطيفا وبديعًا للفت الأنظار لمفهوم بحور الشعر.

وأخيرًا

هل يفترض أن أختم بتوجيه فلنهتم بالفصحى والفصحى هويتُنا؟! لا أعلم ما يمكن أن يقال؟ لايستهويني كثيرا لعب دور الناصح أو المتباكي على ضعف الفصحى على ألسنة أبنائها وإن كان ذلك يحزنني حقًا، وإنما كتبتُ هذه المقالة بدافع التلذذ بذكريات الفصحى في الزمن الجميل، أحبُّ الفصحى ويتملّكُني الحنين.


تاريخ التدوينة الأصلي

Facebook
Twitter
LinkedIn
Pinterest

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

نبذة عن الكاتبة
كاتبة المحتوى مريم بازرعة
مريم بازرعة

تعلّقتُ بالقراءة قبل أن أتقنها، وعلى مدى ثلاثين عامًا خضتُ الكثير من التجارِب واكتسبتُ خبراتٍ متنوّعة، وكانت الكتابة رفيقتي الهادئة طوال تلك الرّحلة.

والآن، اخترتُ أن تكون الكتابة حياتي ووسيلتي لتزكية العلم ونشر المعرفة ومساعدة من يريد أن يتعلّم الكتابة ويكتب مدوّنته؛ ليشارك معرفته ويعزّز علامته الشخصيّة ويحقّق تميّزًا في حياته المهنيّة والعمليّة.

النشرة البريدية

أحدث المقالات