الشغفُ، مالئُ الدنيا وشاغلُ الناس، أو هكذا بدا لي هذه الأيام على منصة تويتر؛ تزخرُ التغريداتُ بذكره، والناسُ حوله ما بين مُتَبَنٍ ومُهَوِّنٍ.
تعني كلمة ” الشغف”: الحب والولع الشديد، وهو أقصى الحب[1]، وقد ذُكر لفظ الشغف في القرآن، قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام إخبارًا عن امرأةِ العزيز: “قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا“. ويُقصد به الشعور بحماس شديد أو رغبة لا تُقاوم تجاه شيء ما.[2]
تكررت تلك الكلمة في تغريدات من أتابعهم، وحصل لي أن تفاعلتُ مع ثلاث منها، تناولتِ الشغفَ في سياقاتٍ مختلفة. وفيما يلي سأعرِضُ كل تغريدةٍ وتفاعلي معها ثم أُتبع ذلك بتأملٍ بسيط:
التغريدة الأولى للأستاذ رائد العيد@Raed_Aleid في 12 مارس، جاء فيها: ختمت لطفية الدليمي مقالًا لها قائلة:”إنّ لقمة هانئة صغيرة نتناولها ونحن مسكونون بدفع شغفنا الطبيعي لهي أكثر شرفًا من مال نكتنزه من غير شغف بالحياة”. ما رأيكم؟
وكان تفاعلي أن قلتُ: هذا ما نعتقده، ولكن قد يتخلى عنا هذا الاعتقاد عند المرور باختبار بسيط. الشغف فيه من العاطفة الكثير، ويصدق فيه مقولة: “العاطفة إذا لم تُقيد وتضبط بالشرع والعقل، فإنها تصبح عاصفة”
كلام جميل محتمل، أتفقُ معه إذا كان القصدُ منه بيانَ قيمةِ الشغفِ وليس المعنى الحرفي للتغريدة. ولقد خطر ببالي عند قراءةِ تلك المقولة أن المذكورَ في المقولةِ الشائعة:” يُغنيك عن الدنيا مصحف شريف، وبيت لطيف، ومتاع خفيف، وكوب ماء ورغيف، وثوب نظيف”[3] ، هو أشملُ وأجدرُ بأن يكون أكثرَ شرفًا مما ذُكر في التغريدة. فليس بالشغفِ وحدِه يحيا الإنسان.
وأما التغريدة الثانية فقد كانت للأستاذ محمد المقحم mohamed6290@ بتاريخ 14 مارس يقول فيها “من الطبيعي أن تكره الأعمال التي لا تتقنها جرب أن تتقن عملك جداً جرب مثلاً إذا كنت أكاديمياً أو معلماً أن تتقن المادة التي تدرسها أن تلم بجوانب الموضوع الذي ستتحدث عنه وإنظر كيف ستحب مهنتك وتحب نفسك أيضاً. (كل متقنٍ شغوف)
وكان تفاعلي معها: كلام جميل في الحثّ على الإتقان، أتفق معه لأنني عشته فعلا. لكن أيّهما أسبق الإتقان أم الشغف؟ وهل يختلف ذلك من شخص لآخر؟ هل نستطيع أن نقول: كلّ شغوف متقن؟
لعلي أميلُ إلى هذه المقولةِ أكثر من أختيها؛ لأنّها تتفقُ مع تجربتي الشخصية لسنوات؛ فقد اضطلعتُ بالعديد من المهام وأبدعتُ فيها ليس من بينها ما كان شغفي الأصيل. ومع ذلك لا أستطيعُ أن أنكرَ أنَّ الشغف أحيانا يكون سابقًا للإتقان. وبذلك يجوزُ أن نقولَ: كلُّ متقنٍ شغوف، وكلُّ شغوفٍ متقن، وإن المسألة جدلية. وإن كليهما يمكنُ أن يؤديَ إلى الآخر. لاضيرَ بأيِّهما بدأت، وإنَّ العبرة بالسعي والأخذ بالأسباب والتوكل على الله.
وقرأتُ اليوم التغريدة الثالثة، وهي للأستاذ ياسر العماري @YassserAmmari يقول فيها: المنغصات والصعوبات تواجه أي شخص في مسيرته المهنية. من أنجع الحلول لتخفيفها وتجاوزها هو: “أن تعمل في مجال تحبه وتجد نفسك شغوف به”.
وتفاعلتُ معها قائلة: هذا بالضبط ما أفعله الآن، بعد أن عملت لسنوات في المجال الذي تيسّر لي العمل فيه.
وهذه المقولةُ تتفقُ مع تجربتي الشخصية الجديدة، لذا أتفقُ مع القولِ بأن العمل في مجالٍ تُحبه سيخفّفُ عنك المنغصات، وسيعينك على تجاوز الصعوبات. ولكنه لم يتيسرْ لي بداية الأمر، ولا أظنُّه يتيسرُ لكل الناس دائمًا.
تأتي هذه التغريداتُ لتكونَ كشافاتٍ ضوئيةٍ تُسلّطُ على الشغف من زوايا مختلفة وهو يتوسّطُ مسرحَ تويتر؛ لعلنا نستجلي معنى الشغف ومكانته وأبعاده المختلفة.
[1] https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%B4%D8%BA%D9%81/
[2] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B4%D8%BA%D9%81
[3] شاعت هذه العبارة أنها للشيخ الألباني، والصواب أنها لشخص آخر.
التاريخ الأصلي للمقالة