أهرولُ على جهازِ المشيِ، الهدفُ عشرُ دقائقَ هرولةً. ها قد مرّت ثلاثُ دقائق، بدأتُ أشعرُ بعدها بالتعب، تحكَّمي في تنفُّسِك وتمالَكِي نفْسَكِ واستمري. هذا جيّد، على الرغمِ من بدايةِ الإجهاد إلا أنّني أسيطرُ على الوضع. بدأتِ الدقيقةُ السادسة، أظنُّ أنّي لن أستطيعَ المواصلة؛ أنفاسي بلغتْ مداها، نبضاتُ قلبي لا تحتملُ المزيد. مضتْ خمسُ ثوانٍ من الدقيقة السابعة، تتخاذل قدماي ويتوقّفُ الجهاز.
لا بأس، هذا جيّد جدًا. لقد أتممتِ ستَ دقائق هرولة، هذا يُعدُّ إنجازًا قياسًا على الأسبوعِ الفائت. لكن لابد من إتمامِ العشرِ دقائق. لا نزولَ من على الجهاز، اِلْتقطي أنفاسَك وواصلي السير، يجبُ أن تنهي الدقائقَ العشر كيفما كان.
استيقظتُ يومَ الجمعة، اليومَ السابعَ في #تحدي_التأمل، جدولُ اليوم مُكْتمِل. اليومُ -وعلى غيرِ العادة- هناك الكثير من الأعمال. ماذا عن مشاركةِ اليوم السابع؟ يبدو أن طاقتي قد نَفَدَت. لاأستطيعُ أن أحتالَ على يومِ الجُمعةِ لأسرقَ منه ساعةً للكتابة، ثم إنَّ ساعةً واحدةً لاتكفي.
تمكّنتُ من أن أخْتَلِسَ تلك الساعة بعدَ صلاةِ العصر، فتحتُ اللابتوب وأرسلتُ يداي على لوحة المفاتيح: يالله، اكتبي.
وكان السؤال: ماذا أكتب؟ يجبُ أن تواجهي الأمرَ، أمامَكِ ساعةٌ واحدة وخياران: إما أن تُلغي مشاركةَ اليوم، أو أن ترسليها ثرثرةً. فقلت: هما أمران أحلاهما مرُّ.
أممم، ليس تماما؛ فالثرثرةُ لذيذةٌ محبّبة.
يناسبُني أن أُثرثرَ؛ أن أكتبَ بلا هدف. عندما يكونُ هدفي الرئيس هو الاستمرار في الكتابة ولا أملكُ فكرةً لأكتبَ عنها، حينها يكمنُ الحلُّ في الاسترسالِ في الثرثرة. هناك كلامٌ يدورُ في مكانٍ ما من كيانِك، قد لاتتفطّنُ له، لكنَّ أصابعَك تدركُه، فقطِ أَرْخِها على لوحة المفاتيح، أعْطِها حرية النقر، ستشرعُ في إفشاءِ ذلك الكلامٍ.
تُواتيني بعض الطقوس لاستجلابِ الكلام. آخذُ وضعيةَ الكتابة، أفتحُ برنامج الوورد، أختارُ حجم الخط 14، ونوعَ خطٍّ يعجبني، ثم أبدأ في الكلام. بعد كتابة فقرتين أُظللِّهُما وأختار محاذاة الجانبين؛ هنا أشعرُ بأنّي “مسكت خط” الموضوع، وأنّي على المسار الصحيح، وكأنه تفاؤل واستبشار باكتمال المقالة.
نشأتْ لدي عادةٌ جديدةٌ مع # تحدي_التأمل، وهي أن أسترقَ النظرَ بين اللحظةِ والأخرى إلى الزاوية اليسرى من الشريط السفلي. أتابعُ عددَ الكلمات؛ هل أستطيعُ أن أكتفيَ بما كتبتُ وأن أغلقَ الموضوع؟
أُقدِّرُ التنسيقَ جدًا. فبعدَ كتابةِ أربعِ فقراتِ أعودُ لأضعَ “مسافة بادئة”، لا أذكرُ بالضبطِ من أين أتيتُ بهذا المصطلح؟! وهل يدل على ما أعنيه بالضبط؟ وللتوضيح أقصدُ بها تلك المسافة التي تترك في بداية الفقرة، ونتحصّل عليها بالضغط على مفتاح (tab). التنسيقُ يحقّق لي شيئًا ما؛ يجعلُني ربّما أكثرُ انسجامًا مع النص.
يعجبني استخدامُ نوعِ خطٍّ معيّنٍ بَرَزَ لي صدفةً فأحببتُه، لا أعلمُ ما السرُّ في هذا الخط؟ أشعرُ بأنه يغريني بالكتابة، يعجبُني رسمُ حروفِه، لا أعرفُ كيف أصِفه؟ ولكنه يبدو كخطِّ نسخٍ بريء.
تقِفُ أصابعي الثمان على صفِّ الارتكاز، تعرفتُ على حروفه قبلَ خمسةٍ وعشرين عامًا في دورة تدريبية على الطباعة، كان التدريبُ حينها على برنامج “منسّق الكلمات” من صخر، لم أرَ ذلك البرنامج بعد تلك الدورة. بعد بضعِ سنوات احتجتُ للطباعة، كان أمامي حينها برنامج الوورد، اضطربتْ أصابعي في مكانِ حرف أو ربما حرفين، لكن ما لبثتْ أن استيقنت أماكنها.
تنتابُني حالةٌ من تكرارِ المراجعة كلّما شعرتُ باقترابِ انتهاءِ المقالة، ومع كلِّ مراجعةٍ في المراحلِ الأخيرة أحفظُ الملفَ باسمٍ جديدٍ مخافةَ ضياعِ التغييرات الدقيقة التي أجريتُها، لا أعلم لماذا أريدُ الاحتفاظ بها؟ لا أذكرُ أنّي عدتُ إليها في يومٍ من الأيام.
يتجدّد عنوانُ المقالة ويتحوّر، تارةً مع كتابة فقرة معينة، وتارةً أخرى بعد إحدى المراجعات، وأحيانًا تتألّقُ جملةٌ ما هنا أو هناك فتُوحِي لي بعنوان جديد.
لقد تجاوزتُ الحد الأدنى من عددِ الكلمات المطلوب، سأبدأُ في المراجعة. أثناء المراجعة يحدُث أن يتألّقَ النصُّ أمامي؛ وتظهرُ لي كلماتٍ برّاقة وجملٌ تلقائيةٌ جميلة وتراكيبُ تدهشني، يتيسر معها أمر الخاتمة .. هناك من يوشْوِشُني بها.
لا وشوشة اليوم، لا خاتمة مناسبة.
هامش حول معنى “مراودة” :
- مُراودة الكتابة: طلبها والاحتيال عليها وبذل الجهد في ذلك. وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين.
- رَاوَدَهُ :راجعه وناقشه ورادَّه- رَاوَدَهُ على الأمر: طلب منه فِعْلَهُ.
- راودَ فلانا: راجعه وناقشه ورادَّه {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} ”
- تفسير السعدي: فـ { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } دل هذا على أن يعقوب عليه السلام كان مولعا به لا يصبر عنه، وكان يتسلى به بعد يوسف، فلذلك احتاج إلى مراودة في بعثه معهم { وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} لما أمرتنا
- تفسير ابن كثير: سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا فيما قلناه .
تاريخ التدوينة الأصلي