هذا ما آلت إليه قراءة الأيام الماضية، قراءة نصف “الحياة الجديدة” لأورهان باموق، ونصف “رسائل إلى شاعر شاب” لراينر ريلكه، وهكذا جاءت الأمور دون رابط أو ترتيب؛ حضرتا جنبًا إلى جنب في ذهني، تناقضهما أغرى بالتأمّل، ولما حان وقت تمرين الكتابة كانت هذه الأنصاف زادًا كافيًا.
أحد دوافع الكتابة بالنسبة لي الرغبة في الفهم، فالكتابة وسيلة للفهم، فأنا عندما أكتب أبحث جديًّا عن معنى ما قرأت، أستنطق أعماق نفسي وعقلي وكلّي، أنفُذُ بتفكيري ما أستطعت إلى أبعد نقطة ممكنة، وما تفتأ ُالكتابة تطالبني بكلمات أدق وتعبيرات أوضح. وفي حين يتيح التفكير دون كتابة التفلّت والتنقل دونما إلزام، فإن مع الكتابة يصعب أن تترك جملة مفتوحة دون إكمال أو فكرة عالقة دون إتمام، الترك في الكتابة مفضوح.
سمحتُ لنفسي بأن أكتب عن قراءة لم تكتمل، لحلول وقت الكتابة هذا سبب، والسبب الثاني هو ما بررتُ به لنفسي وهو أنني أقيم لنفسي تقييمًا “مرحليَّا” لفهم القدر الذي قرأته، حتى إذا تشكّل لدي معنىً ما وحصلتُ على فهم معين، كان ذلك خير معين على فهم الكتاب عند اكتماله. وإن تسألني كيف يكون ذلك؟ أقول: بالوقوف عند جزء من الكتاب متسائلةً متأمّلة، رافضةً أومتقبّلة، أحصل على “تقدير موقف” حول ما قرأت؛ ربما توجيه معين لطريقة القراءة، أوربمّا تساؤلات وتنبؤات حول ما تبقى من الكتاب. أزعم أن هذه الوقفة التفاعلية العميقة تعطيني انطلاقة أفضل في التعامل مع الكتاب.
في الواقع فإن ما سبق لم يكن إلا تبريرًا لعدم إكمال قراءة الكتاب الذي بين يدي، وهو توقف لم يكن مقصودًا أو اختياريا، وإنّما هو العجز عن الاستمرار، فقد أوقفتني رواية باموق بوعورتها عن مواصلة القراءة، بينما أوقفني أمر آخر عن إكمال رسائل ريلكه.
كانت لي علاقة قوية جدا بالقصص والروايات في الطفولة والمراهقة، ما أن أمسك بالكتاب حتى أنفصل عن واقعي و أنتقل إلى عالم آخر، مكان وزمان آخرين، أشاهد وأتفرج وأعايش الناس هناك، قراءة متعة خالصة، حياة خيالية محلقة يستحيل معها سماع نداءات الوالدة رحمها الله. هفت نفسي إلى تلك العلاقة التي أتحرّر بها من الزمان والمكان لأعيش حياة أخرى أقضي فيها ساعة أوأكثر ثم أعود. وتحمّستُ أكثر عندما عرفت أن في قراءة الروايات ما هو أكثر من مجرد المتعة القصصية.
“الحياة الجديدة” عنوان يناسب ما كنتُ أبحث عنه، افتتاحية جذابة لعلّها تلبي حاجتي في الاستغراق الممتع، “قرأت كتابًا في يوم ما فتغيرت حياتي كلها”. حملت تلك الافتتاحية وبضع صفحات بعدها لي الأمل بالتحليق والتحرر من الواقع و ولوج عالم آخر، لكن ما لبث الأمل أن تبدّد شيئا فشيئا، وحلّ محلّه اليأس والضّجر. فحياة أورهان الجديدة أتعبتني وكلفتني رهقا.
كان من الممكن أن أترك الرواية، وأعمل بمقولة “إذا لم تستطع شيئًا فدعْه”، ولكنّي كنت مصرّة على أخذ قراءة الرواية على محمل الدراسة. لكن ذلك الإصرار لم يدُم، فتجرّعتُ الرواية حتى منتصفها ثم لم أصمد بعد ذلك، فتوقفتُ تمامًا، وكنوع من المواساة فكرتُ في أن أكتب حول القدر الذي وصلتُ إليه كما وصلني، أكتبُ لأقيّم نفسي وقراءتي.
بمجرد أن بدأت الكتابة بدأت كتلة التشويش التي في رأسي بالهدوء، وكأن غبش المشاهد بدأ يتلاشى، وبدت لي الكتابة وكأنها نظارة ولكنّها من نوع مختلف، نظارة تحسّن من رؤية المعنى المقروء. لا أدّعي أنني فهمت تمامًا ولكني بدأت أتلمس شيئًا من معالم تلك الحياة، فهي ليست حياة جميلة ـ وعلى خلاف المتوقع ـ تلك التي أهداها الكتاب، بل حياة متعبة ومرهقة ويائسة، مليئة بالمشاهد المشوهة والطرق الوعرة المليئة بالحفر والمطبات والاصطدامات،والحوادث والجراح والموت، والوجهة غير المعروفة فمن حافلة إلى حافلة تيه وضياع وصور مزعجة. وكل ذلك الإزعاج يسير جنبًا إلى جنب مع مظاهر الحياة الطبيعية وقصصها اليومية في البيوت والشوارع والمقاهي، فكل شيء عادي ويومي وطبيعي لكنه في الوقت نفسه متناقض ومشوه ومزور حدّ الإحباط واليأس، وحتى تلك الومضات اليومية الطبيعية التي تنتظر معها الهدنة والراحة من تلك المتاعب يطالها التشويش أحيانا وهو تشويش يراه هو ولكن الناس لا يرونه. الرواية متعبة و”سايحة” على بعض؛ الحوارات نادرة، لا عناوين توضح شيئًا، ولا مشاهد واقعية تعطينا استراحة محارب لمتابعة القراءة. خالية من محطات الراحة واللوحات الإرشادية.
على النقيض تمامًا تأتي تلك الرسائل الجميلة “رسائل إلى شاعر شاب”، لم تكن مرفأ الأمان ودليل الرحلة فقط، بل أكثر من ذلك فقد حققت لي أمنية الانغماس والذهاب إلى عالم آخر محلّق. الوضوح الجميل والرائق في لغتها وأسلوبها والفائدة والمتعة والرقة في معانيها يغريان بالاستمرار وطلب المزيد. أستطيع أن أصفها بأنها لوحات إرشادية مفيدة لمن أراد السير في طريق الكتابة؛ لذا فكّرت أن أستخرج منها العبارات التي تعني لي وتجيب عن أسئلتي وأحتاجها في مواجهة ما يعترضني أثناء الكتابة.
والآن، وقد انتهيت من ذلك الواجب الكتابي، سأعطي رواية الحياة الجديدة فرصة أخرى لمتابعة القراءة ومتفائلة بذلك، وأما رسائل ريلكه فسأكملها وأبدأ في التقاط فوائدي ومحفزاتي الخاصة.
نشرتُ هذه المقالة في مدوّنتي السابقة بتاريخ