استمتعتُ بقراءة رواية “العطر .. قصّة قاتل” للألماني باتريك زوسكيند، أعجبتني وأدهشتني، وهذا هو المطلوب من قراءة الروايات والقصص؛ المتعة والدّهشة.
اعتدتُ ذلك، أعني أن أقرأ القصص واستمتع دون أدنى تفكير في لماذا أعجبتني؟ أو ما الذي أعجبني فيها؟ لكنّي ولأمرٍ ما فكّرتُ هذه المرّة في اختبار نفسي بالكتابة عمّا أعجبني فيها.
ربّما لأنّني قد بدأتُ بالفعل الكتابة عنها، بعدما سألتني مغرّدة عن رأيي فيها.
وربّما لأنّ اسمها ما زال عالقًا في ذهني مذ سمعت عنها في ورشة كتابة الكتابة الإبداعية القصة والرواية.
هنا لقطتان لمنشورات من منصة إكس، ذكرتُ فيها انطباعي الأولى عن رواية العطر عندما بدأتُ قراءتها
قد تكون الافتراضات السّابقة لها تأثير في رغبتي في الكتابة عنها، ولكنّي أزعم بأن السّبب الرئيس داخلي جدًا، وهو شوقي للكتابة.
أكتب هذه التّدوينة بدافع الرغبة في الكتابة وكانت رواية العطر موضوعًا مشجّعًا لذلك؛ لذلك اشترطتُ على نفسي أن تكون الكتابة عن الرّواية انطباعيّة وألّا أعود إليها لأقرأ وأحلّل.
هل حاسّة الشمّ بهذه القوّة؟
كان هذا السؤال حاضرًا أثناء القراءة، ودار بخلدي مقارنة بين الحواسّ، وخرجتُ بهذه النتيجة.
وهي أن حاسة البصر تعطينا أكبر قدر من المدخلات والموصوفات والصّفات التي يمكن أن نحكي عنها، وهناك كم هائل من المفردات التي يمكن أن نستخدمه في وصف ما تقع عليه أعيننا.
وافترضتُ حسب معرفتي المحدودة أن حاسة السّمع تلي حاسّة البصر، وأنّ هناك كمّية أقل ممّا يمكن تمييزه سمعيًّا ووصفه باستخدام مفردات خاصّة بالمسموعات، هكذا افترضت.
أمّا الشمّ فوجدت أن الكلمات محدودة، وتردّدتُ أن أقول “جدًا” لكنّها هكذا هذا بالنسبة لي، وهي أقل من المفردات المستخدمة مع وصف السمع. ثمّ لماذا قد نحتاج لوصف المشمومات؟ احتياجنا لها محدود.
ولكنّي لم أستطع أن أنكر قوّة تلك الحاسّة في خلق ارتباط قوي لا يمكن نسيانه، وقدرتها على إحياء شيء مرّت عليه سنوات في لحظة شمّية عابرة، فعلى سبيل المثال أذكرُ كيف هزّتني رائحة ذات يوم في مدينة الرياض، شعرتُ معها وكأنّي في إحدى الصباحات في مدينة جدة، وأعادتني طالبة ترتدي مريول المدرسة وتحديدًا أقف في شرفة شقّتنا لأتناول شيئًا من حبل الغسيل. ذكريات الشم تأثيرها عجيب.
ومع هبوب تلك الرائحة وأنا أذكر قصّتي مع رائحة صباح جدّة، حضرني قول نبيّ الله يعقوب عليه السلام: “إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ “، وممّا ورد في تفسير الطبري للآية أن ابن عباس يقول: وجد يعقوبُ ريح يوسف، وهو منه على مسيرة ثمان ليال.
وذُكر في موضع آخر من التفسير: “أن الريح استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير ، فأذن لها، فأتته بها.”
ما سبق كان مجرّد استطراد خطر ببالي؛ فأحببتُ كتابته.
لا أستطيع أن أحيط بمسألة حاسّة الشمّ وأبعادها وإمكانياتها، لكن ما أثارته رواية العطر في نفسي أنّ لحاسة الشم أسرارًا، فالرواية تتحدث بلسان حاسة الشم لتقول: أنا هنا، أنا موجودة بأكثر ممّا تتصوّر. وستطلب منك مرّات عديدة أنْ تقف لتستحضر موقف ما وتجرّب أن تتخيّل المشممومات.
هل حاسّة الشمّ بهذا الاتساع؟!
لا أعلم ما الذي أجرى كلمة “الاتّساع”على لساني، وما الذي أقصده منها تحديدًا. وأظنّ أن الأمر كالتالي: كيف استطاع باتريك زوسكيند أن يسترسل فصلًا بعد الآخر وأن يجد أحداثًا يحكيها، وما زال الشمّ ممسكًا بها؟
كلّما أنهيتُ فصلًا تساءلت ما الذي سيحكيه في الفصل القادم؟! وماذا يمكن أن يقول؟! وهل مازال الشمّ قادرًا أن يتكفّل بكلّ تلك الصفحات المتبقيّة؟
هذه هي الدهشة التي تمسك بتلابيبك وأنت تقرأ الرواية فلا تتركك إلّا وقد أنهيتها.
هذه هي الدهشة والإمتاع المطلوب في الكتابة الإبداعية.
وأستحضر هنا ما تعلّمته في ورشة كتابة القصة والرواية، وأعني الاستعانة بتقنية “ماذا لو؟” و”ماذا بعد؟” وهي تفتح أبواب احتمالات كثيرة يمكن أن تسير فيها الرواية، وهكذا يجب أن تفكّر عندما تكتب رواية، أن تتخيّل احتمالات عديدة وتختار أكثرها دهشة مع الاحتفاظ بالمنطقية والاتّساق.
وهذه المنطقيّة والاتّساق في رواية العطر أدهشني أيضًا، كيف أن زوسكيند حافظ على شخصية غرونوي الغريبة، التي قد يتخيل لك في لحظة أنّه قد ينفلت منها، لكنّه في كل مرّة يؤكّد لك من خلال الوصف والموقف والحدث مبدأ غرونوي الثّابت، وإخلاصه للشم والمشمومات.
رواية “العطر” تطبيق عملي لمبدأ إشراك الحواس في الكتابة الإبداعية
ذكرت في بداية التدوينة أنّ أول مرّة سمعتُ فيها عن رواية العطر كانت في ورشة الكتابة الإبداعية مع الدكتور أحمد المنزلاوي، لذلك اخترتُ أن أورد لكم مقطعًا من كتاب كيف تكتب رواية أو قصّة قصيرة؟ لأحمد المنزلاوي يتحدّث فيه عن رواية العطر؛ فيقول:
“أمّا رواية (العطر) للألماني (باتريك زوسكيند) فقد أمضت في أنف قارئها فعلًا قرائيًّا، وليس عبر عينيه، فإطار الرواية التاريخيّة هو القرن الثامن عشر، ومساحتها الرئيسة هي الروائح بشكل عام والعطور بشكل خاصّ، معتمدًا المؤلف على مرجعية علمية متخصصة بصناعة العطور في ذلك الزمن، وتراكيبها، والمواد الأوليّة لها ومقادير الخلطات، وسارت الحكاية تجول في الطبيعة مقارنة بما يشمّه الأنف من مزارع الزهور، ويعطينا دفقًا طيّبًا من المعلومات المتواصلة والمتجدّدة في عالم العطور، والزهور، وكيفية تفكيك المزيجات، والعودة بها إلى أصولها، إضافة إلى كيفيّة استخلاص أذكاها، وخلطات عجيبة بعضها متوفّر إن لم يكن هنا فهو يوجد هناك، فالشخصيات والأحداث والأماكن والمشاعر والمواقف ترسِمها روائحها، وكأنّ مؤلفها لم يُبقِ كتابًا في زمانه عن العطور إلّا واطّلع عليه، ولم يكن قد ترك تركيبًا لعطر ما، إلا وقد جرّبه،عملًا، أو شمًّا.
وقد استعاض عن العين المبصرة بالأنف الدقيق الشمِّ الذي أصبح راويًا يصِفُ أدقّ التفاصيل، وأعمق المشاعر، وأعقد المواقف، وأكثرها غرابة؛ حيث لا يعرف من الأشياء التي حوله سوى رائحتها، وأصبح بذاكرته روائح يقارن بها الحيوات المحيطة به أجمعها.”
ملخّص لرواية “العطر .. قصّة قاتل” ليكتمل مشهد التّدوينة
أتوقّع أنّك بوصولك إلى هنا قد أصبحت متحمّسًا لقراءة رواية “العطر .. قصّة قاتل” للألماني باتريد زوسكيند، وأنّك تريد التّعرف عليها أكثر. أشعر بأنّه لزامًا علي أن أكمل ما يجب علي فعله بأن أطلعك على ملخّص لقصّة الرواية.
لذلك اخترتُ لك تدوينة لطيفة للأستاذ طارق الخميس يلخّص فيها رواية العطر ويذكر انطباعه عنها. قراءة ماتعة.
وأخيرًا
كانت تلك التدوينة مراجعة خفيفة ممزوجة بشيء من مدارسة الكتابة الإبداعية والرواية.
وفي ختام التّدوينة أريد أن أعرّفك بأنّي أدرّب على التدوين والكتابة عبر الإنترنت، فإن كنت مهتمًا بإنشاء مدوّنة ومشاركة معرفتك وخبرتك من خلال الكتابة فيها؛ لبناء جمهور مهتم ومتابع يمكنك تحويله إلى عملاء مستقبلًا اشترك في نشرتي البريدية ما قلّ ودلّ
أو تواصل معي عبر الواتس للحصول على استشارة.